كتابة بيضاء وحبر أسود

من تكريس أحادية المركز إلى تنوّع قضايا الهامش
د.عبدالحكيم باقيس
April 25, 2023

كتابة بيضاء وحبر أسود

من تكريس أحادية المركز إلى تنوّع قضايا الهامش
د.عبدالحكيم باقيس
April 25, 2023

تشكّل الكتابة عن الفئات المهمّشة في المجتمع اليمني، ذو التركيبة الاجتماعية القبَلية المعقّدة، إحدى مظاهر تحوّلات الخطاب الروائي اليمني الجديد، وقد مهّد لانتشار هذه الكتابة تجدُّد دواعيها على مستوى الواقع الذي لا يكف عن إعادة إنتاج صراعاته السياسية وورطاته التاريخية بالاستناد إلى ذرائعية اجتماعية. ولذلك ستجد الكتابة عن المرأة والفئات الاجتماعية المقموعة، كـ"الأخدام" والسود، والمختلفين مذهبيًّا ومناطقيًّا، ما يبرّرها دائمًا، وربما تتضاعف في ظلّ اتساع دائرة المهمشين المقموعين بدخول فئات جديدة، كالموظفين المدنيين. وغنيٌّ عن البيان سخرية رئيسٍ يمنيّ سابق ذات يوم، ممّن يلبسون البنطلون وأياديهم فارغة من حمل السلاح القبَلي، في إشارة واضحة إلى الموظفين الحكوميين المدنيين، الذين يشكّلون فئة اقتصادية عظمى مسحوقة على اختلاف تنوّعاتهم الاجتماعية، والتي يُطلق عليها في البناء الاجتماعي مسمى (الطبقة الوسطى)، وتندرج في إطارها أطيافٌ عديدة من مختلف المهن الاقتصادية والاجتماعية وفئة الكتّاب أو (المثقّفين الثوريّين، بحسب المسمى الماركسي). وهذه الطبقة الوسطى هي المستبعدة دائمًا من المشاركة الفعلية في اتخاذ القرار، في ظلّ تغوّل فئة القبَليّين والعساكر، فضلًا عن السلاليين والعقائديين الذين استطاعوا تسخير الجميع وقمعهم، يحدث ذلك ويتكرّر على الرغم من مفارقات الخطاب السياسي وشعاراته في نحو نصف قرن من قيام الدولة الوطنية في شطري اليمن.

إذن، لِتناول المهمّشين وفضاءات الهامش مستويات عديدة، يشكّل كل واحد منها مسبارًا صادقًا للتعرف على مجمل الاختلالات المستمرة والمضاعفة التي يعاني منها المجتمع اليمني، الأكثر انشغالًا بإعادة إنتاج القهر وأشكال الظلم والاستبداد على نفسه.

فما الذي يمكن أن تفعله الرواية؟!

بحكم خصوصية الرواية وفاعليتها في التعبير الأدبيّ عن قضايا الإنسان ومحنة المجتمعات والأوطان، كانت الأكثر جرأة وصدقًا في تناول المسكوت عنه، وكان من أبرزها موضوعات المهمشين في السنوات الأخيرة، وظاهرة الكتابة عن ذوي البشرة السوداء من "الأخدام والعبيد والمولّدين"، وما يتصل بها من مظاهر الرفض والعنصرية والرِّق والظلم والاستبعاد الاجتماعي، وعلى الرغم من الجذور التاريخية البعيدة جدًّا في مطوى التاريخ من عقدة الصراع مع اللون الأسود في التاريخ اليمني القديم، فقد تجنّب الأدب الولوج إليها بجسارة كما تفعل الرواية الآن في أثناء عبورها إلى ما هو جديد ومغاير، وربما بسبب صدى استجابات روائية في السياق الثقافي العام في انتقاله مؤخرًا من الاهتمام بالمركز إلى الهامش، ذلك أنّ المتابع للرواية في مرحلتها الواقعية أو ما قبلها يجد خلوّها من تناول هذا الموضوع خلوًّا تامًّا لانشغالاتها بالقضايا الكبرى، أمّا وقد أخذت في الانتقال إلى قضايا الإنسان ومحنته في واقع تحيطه التشظيات والالتباسات وصراع الهُويات، كان لا بُدّ من كتابة بيضاء شفافة ومحايدة خالية من أدران التعصب والكراهية، وصراع الخطابات الأيديولوجية، تعبر إلى القارئ بصدق عمقها الجمالي ومعناها الإنساني، ما يشكّل ظاهرة سردية جديدة جديرة بالدرس والتأمل، في انتقال السرد من تكريس أحادية المركز إلى تنوع قضايا الهامش، ومن ذلك انتقال السود من هامش الحياة إلى مركز السرد.

أخدام لأنّهم سود

يمكن الجزم بكل اطمئنان أنّ رواية (طعم أسود رائحة سوداء)، 2009، لعلي المقري، هي الكتابة البيضاء الأولى عن الذين يطلق عليهم اسم الأخدام السود الذين يشكّلون مجتمعاتهم الصغيرة على هوامش المدن، ويعيشون حياتهم بأسلوبهم الخاص بعيدًا عن الآخرين. وتُروى تفاصيل الحياة الخاصة لهؤلاء السود، من خلال عين شاب صغير من طائفة في أدنى السلّم القبَلي (المزينين)، يهرب برفقة حبيبته إلى (المحوى) الذي يعيش فيه الأخدام بالقرب من مدينة كبيرة، فتصبح رحلة الراوي الذي جاء من خارج مجتمع الأخدام رحلة كاشفة عن داخل هذا العالم المسكوت عنه سرديًّا، وعن طبيعة طقوسه وتقاليده الخاصة، وكاشفة عن علاقاته وتناقضاته، حيث الرفض المتبادل بين الأخدام وبقية المجتمع في الخارج الذي تسوده التقاليد القبَلية المدعمة بموروث وميثولوجيا، تحرّم الالتقاء بالأخدام أو الاعتراف بهم. يقول علي المقري في إحدى شهاداته عن تجربته الروائية: "هؤلاء الأخدام يعيشون في إطار مجتمع همّشهم طويلًا، ليس بسبب لونهم فقط، وإنّما لعدم خضوعهم لثقافة المجتمع المحيط، التي تنظر إليهم بدونية واحتقار، فهم يقومون بممارسات لا حدودية، لا تنتمي لثقافة أو أيديولوجية ما".

كما أنّ رواية (أرض المؤامرات السعيدة) 2018، لوجدي الأهدل، في تناولها موضوع الفساد في العقد الماضي الذي أصبح يشكّل بنية كامنة في كل تفاصيل المجتمع الذي تسوده منظومة علاقات اجتماعية وسياسية سلبية تتيح له أن يتغلل في كل الزوايا، تُقدّم تمثيلًا سرديًّا عن الظلم الذي تتعرض له هذه الفئة المهمشة في عدة مستويات؛ تبدأ من النظرة السلبية إلى الأخدام وامتهان حيواتهم، وتصل إلى حد الرق والاغتصاب والقتل، وهكذا تمضي الكتابة البيضاء في انحيازها للمهمشين، متناوِلةً العديدَ من الممارسات العنصرية التي تتعرّض لها هذه الطائفة من ذوي البشرة السوداء غير المعترف بهويتها ووجودها إلا في مساحات من هامش الحياة. ومؤخرًا، صدرت رواية (زهر الغرام) في 2020، لأحمد قاسم العريقي، تحمل الرواية اسم فتاة من فئة المهمشين (الأخدام) تقع في حب شاب من فئة (القبائل)، وعلى الرغم من الفوارق الطبقية والاجتماعية بينهما، بحسب سلّم الأعراف والتقاليد الاجتماعية القبَلية، يقرّر الاثنان بمساعدة أسرة الفتاة الهرب والزواج في مدينة بعيدة عن قريتهما، ويستطيع الشاب (حبيب الدين) أن يُحدث تحوّلًا إيجابيًّا في سلوك زهر الغرام التي ظلت تعاني بين حياتها الجديدة والسلوك القديم الذي ورثته عن فئتها، وعندما يشعر حبيب الدين بدنو أجله بسبب المرض، يقرر العودة بعائلته (زهر الغرام وأولاده منها) إلى قريته، وخوض مواجهة الاعتراف بها، وتواجه زهر الغرام مشكلة عدم قبولها في مجتمع القبائل بعد موت زوجها، وتخوض مواجهة التمييز ضدّها، وتنجح في ذلك، لكنّها تقرّر العودة إلى المدينة من أجل مستقبل أولادها، وتخوض كذلك سلسلة من التجارب والمواقف التي تثبت فيها تحولها إلى امرأة جديدة، والخروج التام من مجتمع الأخدام بكل سلوكياته السلبية، وبناء مستقبل خاص لعائلتها بعيدًا عن التمييز الاجتماعي. والرواية من خلال أحداثها وشخصياتها، كاشفة عن واقع التمييز والنفاق الذي يمارسه أفراد المجتمع ضدّ بعضهم، وتحويلهم إلى فئات، تقع في أدناه فئة الأخدام.

سرد حياة المهمشين بات من الموضوعات التي لها حضور واضح في العديد من الكتابات الروائية المحلية والتي يتم تمريرها في العديد من المضامين.

والموضوع الذي يبدو أنّه قد اتخذ شكل القصة الغرامية التقليدية الموجودة بكثرة في مختلف الآداب والثقافات، كان مناسبة للدخول في عمق الشخصية السوداء، وتقديم رؤية عن كيف يمكن للمرء أن يواجه التمييز العِرقي والاجتماعي، ويخوض ملحمته الخاصة وينتزع الاعتراف بوجوده وقيمته الإنسانية، فضلًا عن كون سرد حياة المهمشين بات من الموضوعات التي لها حضور واضح في العديد من الكتابات الروائية المحلية والتي يتم تمريرها في العديد من المضامين. وعلى الرغم من نقد الرواية لظاهرة التمييز الاجتماعي في اليمن، ضدّ هذه الفئة، فقد وقعت الرواية نفسها في تكريس الصورة النمطية عن حياتهم المبتذلة، والصورة السلبية عنهم من خلال نماذج الشخصيات، كالقذارة، الفحش، السذاجة، الكسل، الغباء، العنف، الخيانة، وغيرها من الصفات السلبية.

العبودية في اللون الأسود

في اتجاه اكتشاف معاناة فئة العبيد السود، تناول عمار باطويل في روايته الأولى (سالمين)، 2015، استمرار نظام الرق والعبودية الذي بقي في بعض مناطق جنوب اليمن حتى نهاية النصف الأول من القرن الماضي، وكيف استطاع نظام الرق أن يعيد إنتاج نفسه في حضرموت في صيغة اجتماعية أبوية/ قبَلية، غير أنّ عقدة اختلاف اللون بين السيد والعبد ظلّت مشكلة قائمة، عبّرت عنها بعمق شخصيةُ العبد الأسود (سالمين)، ما منحها بعدًا إنسانيًّا تراجيديًّا في أثناء صراعها مع عقدة اللون الأسود وما يمثّله من عبودية، تتحوّل إلى شعور داخلي ومعاناة نفسية لا يمكن التخلص منها، مثلما لا يمكن التخلص من علامته في البشرة السوداء التي يحملها سالمين.

وتكرر ظهور معاناة العبيد في روايته الثانية (طريق مولى مطر)، 2019، من خلال شخصية العبد (فرج) ضحية المعاملة العنصرية والاحتقار، الذي وصل إلى حدّ قتله بسبب لونه الأسود، وفئته الاجتماعية غير المعترف بها في سلّم البناء القبَلي الذي كان سائدًا حتى منتصف القرن الماضي في حضرموت. وقد كانت شبوة وحضرموت من أكثر المناطق التي ظلّت سائدة فيها أشكال العبودية والرق حتى ستينيات القرن الماضي، وعلى الرغم من إلغاء هذا النظام بالعديد من القرارات السياسية في الجنوب، فقد بقيت آثارها وصيغها مستمرة في الخفاء، إذ تحوّلت إلى صيغة أبوية تقوم على العلاقة الضمنية بالعبودية بين التابع والمتبوع.

وجاءت رواية عيدروس الدياني (نخلة وبيت) 2021، التي تجري أحداثها في شبوة في فترة الستينيات والسبعينيات، تمثيلًا سرديًّا عميقًا لهذا التحول في العلاقة، في ظلّ صورة أخرى من العبودية. يقول السارد: "سكتت قليلًا، وكأنّها تستجمع ذكرياتها، بينما ولدها سعدان يطأطئ رأسه، حتى يوشك أن يقع على الأرض، عادت لتروي تلك القصة، قصتها مع سرور، أمّا جدي فلا أعرف حينها ما علاقته بالأمر، سوى أنّ زوجها كان عبدًا له، هذا الأمر لم يفاجئني، فقد قصّ عليّ والدي كثيرًا من قصص العبيد هنا، وأنّ كلَّ عائلة تملك عبدًا على الأقل، وربما أكثر، وحين يحتاجون للمال يبيعونهم، كأيّ متاع أو بهيمة يملكونها". وممّا يلفت النظر في ظلّ ندرة الكتابة الروائية في شبوة وحضرموت، أنّ بواكير الأعمال الروائية لكتّابها لم تخلُ من تناول موضوعات ذوي البشرة السوداء.

مولَّدون سود

المولّدون فئة أخرى تقع تحت الظلم والاستبعاد الاجتماعي والسخرية وعدم الاعتراف بوجودها بسبب البشرة السوداء، وتعاني هذه الفئة من مشكلة الهوية والعنصرية، يصبح السواد لعنة أبدية ومعاناة مستمرة للمولدين من أمهات أفريقيات، وقد كتب عن أزمة هذه الفئة محمد أحمد عبدالولي في (يموتون غرباء) 1971، والتي يمكن عدّها أولى الكتابات الجريئة في تناول موضوع هوية المولدين من ذوي البشرة السوداء، غير أنّ سامي الشاطبي في (أنف واحد لوطنين) 2017، سيُعيد تعميق هذا القضية في إطار مفارقة نكوص المجتمع المستمر باتجاه القيم القبَلية والعنصرية السلبية، وتقدّم الرواية إشكالية قديمة جديدة، تتصل بسؤال الهُوية والانتماء، ليس كما تقدّمها الذات عن نفسها بوصفها اختيارًا من لدنها حين تدافع عن هويتها وتعتز بذلك، وإنّما تقدم الرواية هذه الإشكالية من خلال الرؤية السلبية في المجتمعات المتخلفة التي تتعصّب ضدّ اللون الأسود في نظرتها لهؤلاء الذين يطلق عليهم اسم "مولّدون"، والتي تحدّدت دلالتها فقط في أبناء اليمنيين من أمهات حبشيات أو أفريقيات سود، ذلك ما يعبر عنه الفتى (صادق) الذي يعاني من التمييز العنصري في مجتمع متخلف يكرس النظرة الاستعلائية على طائفة من أبناء جلدته بسبب اللون، ما دفعه إلى إطلاق أمنية ساخرة: "آه.. لو كانت أمي فرنسية أو أمريكية، لَكَنّوا لي احترامًا وخوفًا مبالغًا فيهما"، ما يعني أنّ الموقف هو من الأسود، وليس المولد من أم أجنبية، وهو موقف سليل ثقافة لا ترى في الأسود غير المعاني السلبية التي هي انعكاس لثقافتها العنصرية العصبوية، يصبح الأسود ضحية لممارسة أشكال القهر والظلم الاجتماعي. وبمهارة بالغة، يسلط سامي الشاطبي الضوءَ في هذه الرواية على خطاب الظلم الذي يتعرّض له صادق؛ لأنّه يحمل لون أمّه الحبشية، التي تمنحه كلماتها قوة وحكمة في تجاوز شعوره بالانتقاص المستمر من هويته بسبب سخرية الأطفال منه، وحين تموت يزداد شعوره بالاغتراب عن الناس، ويستولي أعمامه على ميراثه من أبيه، ويرفضون الاعتراف به بسبب لونه، يقول له عمّه الذي قرّر الاستيلاء على ميراثه: "أنت مولد وأمك حبشية وما يحق لك أيّ ميراث"، وحين يذكره أنّه ابن أخيه، ينكر نسبه فيهم، قائلًا له: "القبيلي ما ينجب أحباشًا"، جملة قصيرة عنصرية دامية تقطع الصلات الاجتماعية قطعًا تامًّا، وتلخص ببلاغة موجزة محنةَ البشرة السوداء في المجتمعات القبَلية المتخلفة.

•••
د.عبدالحكيم باقيس

إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English